أخبار الساعة » السياسية » عربية ودولية

التغيير الذي فشل أوباما في تحقيقه! صبحي غندور*

- ادريس علوش

 

التغيير الذي فشل أوباما في تحقيقه!

صبحي غندور*

 

بدأ الرئيس الأميركي أوباما عهده في مطلع العام 2009 مبشّراً برؤية مثالية للسياسة الخارجية الأميركية، فيها التأكيد على حقّ الشعوب بتقرير مصيرها، وفيها دعوة للتعامل بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. كما كان في هذه الرؤية نقد مباشر وغير مباشر لما كانت عليه السياسة الأميركية في ظلّ الإدارة السابقة، خاصّةً لجهة الانفرادية في القرارات الدولية الهامّة ولاستخدامها أسلوب الحروب في معالجة الأزمات، وما رافق هذا الأسلوب أحياناً من أساليب تعذيب لمعتقلين وتعدٍّ على حقوق الإنسان.

وقد كان الملفّ الفلسطيني أحد الملفّات الهامّة في رؤية الرئيس أوباما حيث خصّص له فور تولّيه سدّة الرئاسة مبعوثاً خاصّاً هو السيناتور السابق جورج ميتشل، المعروف بنجاحه في معالجة الأزمة الأيرلندية خلال حقبة الرئيس بيل كلينتون.

الآن، وبعد مضيّ ثلاث سنوات على وجود باراك أوباما في "البيت الأبيض"، وفي عام ترشّحه مجدداً للرئاسة الأميركية، نجد أنّ رؤيته المثالية لأميركا والعالم اصطدمت بواقع أميركي وبظروف خارجية دولية أعاقا معاً تنفيذ الكثير ممّا طمحت له "الرؤية الأوباميّة".

إنّ الواقع الأميركي الداخلي يقوم على قوى ضغط عديدة (اللوبي) تمثل مصالح جهات فاعلة في المجتمع الأميركي، وقد عمل قسم منها على تعطيل برنامج أوباما الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصحّي، كما هو حاصل أيضاً في العلاقات الأميركية/الإسرائيلية وفي اضطرار إدارة أوباما للتراجع عن شرط تجميد كل أعمال الاستيطان قبل استئناف المفاوضات الإسرائيلية/الفلسطينية.

ففي ظلّ حضور الضغط الإسرائيلي المؤثر داخل الولايات المتحدة، من خلال العلاقة مع أعضاء الكونغرس والهيمنة على معظم وسائل الإعلام، تصبح السلطة التنفيذية في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية و"السلطة الرابعة" أي الإعلام. والمعضلة هنا أنّ الفرز لا يكون حصراً بين حزب ديمقراطي حاكم وحزب جمهوري معارض، بل يتوزّع "التأثير الإسرائيلي" (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبين معاً، فنرى عدداً لا بأس به من "الديمقراطيين" يشاركون في ممارسة الضغط على الإدارة الحاكمة لصالح هذا "اللوبي" أو ذاك، علماً أنّ تعثّر "الرؤى الأوبامية" ليس سببه حجم تأثير "اللوبي الإسرائيلي" فقط، فهناك طبعاً "مصالح أميركية عليا" ترسمها قوى النفوذ المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسسات المالية والصناعية الأميركية الكبرى.

لكنْ هناك اختلال كبير في ميزان "الضغوطات" على الإدارة الأميركية لجهة حضور "الضغط الإسرائيلي" وغياب "الضغط العربي"، ممّا يسهّل دائماً الخيارات للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدَف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما هو "الحلقة الأضعف" في سلسلة التحرّك الأميركي بالمنطقة.

لذلك كانت التوقّعات من الإدارة التي رئسها باراك أوباما كبيرة. لكن هذه التوقّعات بتغييرات أساسيّة في السياسة الخارجية الأميركية عموماً، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، كانت أكبر من القدرة الفعلية للرئيسٍ الأميركي. فما حصل من تغيير حتى الآن هو في الشعارات وفي الخطوط العامة المعلَنة للسياسة الخارجية الأميركية وليس في جوهرها أو حتّى في أساليبها المعهودة. صحيح أنّ إدارة أوباما لم تبدأ الحروب والأزمات المتورّطة فيها الولايات المتحدة حالياً، وصحيح أيضاً أنّ هذه الإدارة لم تبدأ أي حروب أو أزمات دولية جديدة، لكنّها (هذه الإدارة) لم تقم بعد بتحوّلات هامّة في مجرى الحروب والأزمات القائمة، بل نجد الآن انسجاماً كبيراً مع نهج الإدارة السابقة في مسألة التعامل مع الملف الإيراني واحتمالاته التصعيدية الخطيرة.

ثلاثة أعوام مضت على وجود إدارة أوباما في الحكم ولم تحدث متغيّرات جذرية في السياسة الأميركية، فهل مَرَدُّ ذلك مشكلة الحاكم الأميركي، أم الظروف والإمكانات التي يعمل من خلالها؟ السؤال مهمٌّ لأنّه يرتبط بحجم الآمال الكبيرة التي وضعها الأميركيون وشعوب كثيرة على فوز أوباما. فالفارق شاسع بين خيبة الأمل بالشخص كمبدأ وبين تفهّم الظروف المحيطة به مع استمرار الأمل بتغيير نحو الأفضل.

كتبت عن الرئيس أوباما، بعد فوزه بالانتخابات عام 2008، أنّه سيكون "قائد سيّارة جيّد" لكنه سيبقى محكوماً ومنضبطاً ب"قوانين السير الأميركية" وبالطرق المعبّدة أمامه سلفاً للسير عليها، وفي السرعة المحدّدة له، وبضرورات التزامه ب"إشارات الضوء" وتنقّلها المتواصل من الأخضر إلى الأصفر فالأحمر!.  

يبدو الآن أنّ "الضوء الأحمر" كان الأكثر استعمالاً على طرقات عمل الرئاسة الأميركية! فرغم صدق نوايا الرئيس أوباما واجه برنامجه الداخلي صعوبات عديدة، بينما لا يزال الكثير من توجّهات التغيير في السياسة الخارجية التي كان يدعو إليها مجرّد خطب وكلمات، ولعّل المرسوم الرئاسي الذي أصدره أوباما في مطلع عام 2009 والقاضي بإغلاق معتقل غوانتنامو، والذي لم يُنفّذ حتى الآن، لخير دليل على ذلك، إضافةً طبعاً لعجز إدارة أوباما في الضغط على حكومة نتنياهو لتجميد الإستيطان واضطرار جورج ميتشل للاستقالة من مهمّته بعدما اصطدمت بحائط الموقف الإسرائيلي.

إدارة بوش كانت، بلا أيّ شك، بمثابة كابوس على العالم كلّه وعلى العرب تحديداً، لكن لم يكن من المفروض الاستيقاظ من هذا الكابوس للوقوع في "أحلام اليقظة" والأوهام بأنّ إدارة أوباما ستحمل معها الخلاص والسلام لأزمات المنطقة والعالم.

فما حدث في الولايات المتحدة في انتخابات العام 2008 من انقلاب ثقافي سمح بوصول مواطن أميركي أسود، ابن مهاجر إفريقي يحمل اسم حسين، إلى سدّة "البيت الأبيض"، لم يكن أيضاً انقلاباً سياسياً في الشؤون الخارجية الأميركية. فالولايات المتحدة، بغضّ النظر عن الشخص الذي يحكمها، ستبقى حريصةً على كيفية فهم مؤسساتها لدورها القيادي في العالم ولكيفية حماية مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية في الشرق والغرب، وعلى استمرار الدعم لإسرائيل ودورها المميّز في الشرق الأوسط.

لكن هذا "النمط الأميركي الثقافي اللاعنصري المعتدل" الجديد الذي أوصل أوباما لسدّة الرئاسة، واجه ويواجه تحدّيات داخلية كثيرة في المجتمع الأميركي، أبرزها الشعور العنصري الدفين لدى عشرات الملايين من الأميركيين مقابل ما هو عليه أوباما من أصول إثنية إفريقية، ودينية إسلامية (لجهة والده)، ثمّ برنامجه السياسي والاجتماعي المتناقض مع برنامج اليمين المحافظ الأميركي، إضافةً إلى الانقسام السياسي التقليدي في أميركا بين "ديمقراطيين" و"جمهوريين"، وما في كلِّ معسكر من برامج صحّية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وتأثيرات هامّة لشركات كبرى ومصالح ونفوذ "قوى الضغط" الفاعلة بالحياة السياسية الأميركية.

ولم تكن مشكلة أوباما مع خصومه وخصوم حزبه التقليديين فقط، بل هي أيضاً في داخل "المعسكر" الذي ساهم بوصوله إلى سدّة الرئاسة. فأعداد كبيرة من المستقلين وجيل الشباب الأميركي كانت معه من أجل تغيير شامل ولوقف حروب أميركا الخارجية، وهي أمور لم تحدث طبعاً بعد. كذلك بالنسبة للأوضاع الاقتصادية حيث كانت توقّعات الناخبين لأوباما أكبر من الممكن فعله لتحسين الاقتصاد الأميركي.

العوامل ذاتها التي ساعدت على فوز أوباما بانتخابات الرئاسة هي المسؤولة الآن عن تراجع شعبيته. فحجم سيّئات إدارة بوش وشموليتها لأوضاع أميركا الداخلية والخارجية، كانت لصالح انتخاب أوباما، لكن عدم القدرة حتى الآن على إزالة هذه السيئات أضعف وما يزال من قوّة التيّار الشعبي المساند للإدارة الحالية.

أمّا بالنسبة للقضايا العربية فستضطرّ أي إدارة أميركية للتعامل معها بمقدار ما تكون عليه المنطقة العربية من توافق على رؤية مشتركة لأزماتها المشتركة. لذلك، ما لم يحصل تغيير إيجابي في الواقع العربي وفي العلاقات العربية الراهنة، لن يحدث كذلك تغيير إيجابي في السياسة الأميركية.

إنّ المشكلة، أولاً وأخيراً، هي في المراهنات العربية على الخارج و"متغيّراته"، وفي انعدام القرار العربي بوضع رؤيةٍ عربية مشتركة. فالمشكلة ليست بواقع حال السياسة الأميركية في الشرق الأوسط فقط، المشكلة أصلاً هي في استمرار المراهنات على تغيير في الخارج بينما يبقى الجمود سمةً لازمة للمنطقة العربية وسياساتها.

وليس ممكناً طبعاً فصل ملف الأزمة الأميركية مع إيران عن ملفات "الأزمات الأخرى" في المنطقة العربية، وعن حلفاء طهران في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين. فإيران معنيّة بشكل مباشر أو غير مباشر في تداعيات أيّ صراع، حدث أو قد يحدث، فيما فُتِح الآن من أزمات عربية. وهذا يفسّر المواقف الأميركية الحالية من عدّة حكومات ومعارضات وقضايا عربية، تتفاعل في عام ما عُرف باسم "الربيع العربي". لكن من رحم هذه الأزمات المتشابكة على الأراضي العربية تتوالد مخاوف سياسية وأمنية عديدة، أبرزها كان وما يزال مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، خاصّةً في ظلّ الحراك الشعبي العربي الحاصل ضدّ حكومات الاستبداد والفساد، وما يرافق هذا الحراك من عنف مسلح أحياناً ومن محاولات مستميتة لتدويل أزمات داخلية عربية.

المنطقة العربية كانت، وما تزال، في حالٍ من الصراعات والخلافات بين حكومات دول المنطقة، ولم يؤدِّ بعدُ ما حدث في مصر من تغيير إلى إعادة التضامن العربي، والذي بغياب حدِّه الأدنى تصبح المنطقة فارغةً من أيّ رؤية أو "مشروع" عربي يقابل ما هو يُطرَح (ويُنفَّذ) من رؤى ومشاريع إقليمية ودولية. فتكون المنطقة العربية مُسيَّرةً في سياساتها الخارجية حتى لو أدّت الانتفاضات الشعبية إلى جعلها مُخيَّرةً لحدٍّ ما في أمورها الداخلية. كل ذلك يحدث والمشروع الإسرائيلي ما زال يراهن على صراع عربي/إيراني في المحيط الإقليمي، وعلى صراعات وفتن طائفية ومذهبية وإثنية في الداخل العربي. فهذا وحده ما يصون "أمن إسرائيل" ومصالحها في المنطقة، وما ينهي نهج المقاومة ضدَّ احتلالها، وما يجعل "العدو" هو العربي الآخر (أو الإيراني أو التركي المجاور)، وما يُنسي شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، وما يجعل بعض "الثورات" العربية الحاصلة قوّة إسقاطٍ لكياناتٍ وأوطان لا لحكوماتٍ وأنظمة فحسب!.

*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن

Sobhi@alhewar.com

 

"مركز الحوار العربي"

تجربة عربية فريدة تؤكد على وحدة الهوية وعلى تعددية الآراء والأفكار

 

*إنّ الشعوب أو الجماعات التي تهمّش دور الفكر في حياتها تُهمّش عملياً دور العقل لتُحِلَّ مكانه الغرائز والانفعالات فتصبح الشعوب أدوات فتن، وتتحوّل الأوطان إلى بؤر صراعات تؤجّحها القوى التي تملك "أفكارا" لتنفيذها هنا وهناك.

*كيف يمكن للعرب أن يخرجوا ممّا هم فيه من انقسامات وأن يواجهوا ما أمامهم من تحدّيات إذا كانت هويّتهم الثقافية المشتركة موضع شكٍّ أصلاً، يصل إلى حدِّ الرفض لها أحياناً والاستعاضة عنها بهويّات ضيّقة تسمح للقوى الأجنبية بالتدخّل في شؤونها وباستباحة أوطانها؟!

*كيف يمكن مخاطبة الآخر غير العربي ومحاورته بالقضايا العربية العادلة إذا كان الإنسان العربي نفسه لا يملك المعرفة الصحيحة عن هذه القضايا ولا يجد لديه أي التزام تجاهها؟!

*هل يمكن بناء جالية عربية واحدة في أي مجتمع غربي إذا كان أفراد هذه الجالية رافضين لهويّتهم العربية؟!

 

******

 

ُيدرك من تابع "مركز الحوار العربي" منذ إفتتاح نشاطه الأول يوم 18 ديسمبر 1994، كيف ان وجود المركز وموضوعات ندواته كان نوعية نادرة في منطقة العاصمة الأميركية. فرغم أهمية واشنطن السياسية والاعلامية، ورغم وجود المراكز الرئيسة للجمعيات العربية الأميركية وللبعثات الدبلوماسية العربية، إضافة للعديد من الأكاديميين والمهنيين ورجال الأعمال العرب.. رغم هذا الوجود العربي النوعي، فأن العاصمة الأميركية كانت خالية من أي نشاط دوري ثقافي عربي مستقل.

أيضاً، حينما تأسس "مركز الحوار العربي" في العام 1994، لم يكن متيسراً ما نراه الآن أو نسمعه أو نقرأه (عبر الفضائيات أو الأنترنت) من محطات إذاعية أو تلفزيونية عربية أو سهولة الوصول إلى مطبوعات أخرى..

 

اليوم (18 ديسمبر 2011)، يحتفل "مركز الحوار العربي" بذكرى 17 سنة على تأسيسه في العاصمة الأميركية. وهي سنوات كانت بمعظمها صعبة جداً على الجالية العربية في أميركا، ورغم ذلك، ورغم ضعف امكانيات المركز، نجحت التجربة في خدمة القضايا العربية على الساحة الأميركية، وبتعزيز الدور الإيجابي للعرب في المجتمع الأميركي من حيث تنمية مضمون الأفكار وتحسين أسلوب الحوار وإيجاد منتدى دائم للتفاعل الدوري المفيد بين الأشخاص وبين الجمعيات الأميركية العربية. فالظروف الصعبة لا تغيّر من حاجة الجالية العربية في أميركا إلى مؤسسات ومنابر ثقافية تعزز دورها في المجتمع الأميركي وتصون هويتها الثقافية وجذورها الحضارية.

إن تأسيس المركز كان حالة "مختبرية" لما هو مطلوب على صعيدٍ عربيٍ عام، وأينما كان، وذلك بأن يتفاعل العرب مع بعضهم البعض بشكل حضاري لا صدامي.. وأن يتفهم صاحب أيّ رأي، مضمون الرأي الآخر، إذا تعذّر التفاهم مع هذا الرأي الآخر، وكجزءٍ من مجتمعٍ يحرص الجميع فيه على ضمانة حرية الفكر والرأي والقول والمعتقد.

لم يكن تأسيس "مركز الحوار العربي" في العام 1994، تقليداً لشيءٍ موجود في أي مكانٍ آخر، إذ كان حالة جديدة وفريدة.. أيضاً تأسيس "مركز الحوار العربي" لم يكن منافسة لما هو موجود في واشنطن من مؤسسات وجمعيات أخرى ذات طابع حركي عربي/أميركي. على العكس، فإنّ وجود "مركز الحوار" أفاد ويفيد هذه المؤسسات كلها، وشكّل لها رافداً لدعم بشري وعملي ومعنوي، كما وفّر لها منبراً تصل من خلاله إلى بعض الفعاليات العربية.

ويلاحظ من يطّلع على لائحة ندوات "مركز الحوار" – أكثر من 840 ندوة حتى الآن - من خلال موقعه على الأنترنت http://www.alhewar.com/oldevents.html أو مطبوعات "الحوار"، كيف أن المركز ومطبوعاته هما ساحة للمؤسسات والجمعيات الأخرى، بينما لا يحدث ذلك في مطبوعات هذه المؤسسات أو مراكزها.. فالمسألة بالنسبة للمركز ولمطبوعاته أعمق من مفهوم "العلاقات التجارية" التي على "قدر ما تأخذ تعطي" أو التي تضع "لكل شيءٍ ثمنه". المعيار في تجربة "مركز الحوار" هو رؤية الجانب الإيجابي الذي يمثله وجود ودور أي عمل عربي على الساحة الأميركية، ومقدار مساهمة هذا العمل (الصادر عن أفراد أو جماعات) في إصلاح الواقع العربي هنا أو هناك، وبغض النظر عن الأشخاص والأسماء والهيئات.

"مركز الحوار" كان أيضاً حالة مختبرية لأهمية الخروج من شرنقة الفكر الضيق وضرورة الانفتاح على الفكر الآخر.. فالمركز هو دعوة لعدم الاكتفاء فقط بالنظر الدائم إلى الذات في المرآة بل إلى النظر أيضاً عبر النافذة ورؤية ما يحدث خارج "البيت الخاص"!.

"مركز الحوار العربي" هو تجربة عربية غير مسبوقة بما هي عليه من طبيعة وأسلوب وهدف. فهناك لقاءات عربية هامّة عديدة، تحدث في أكثر من مكانٍ وزمان، لكنّها بطابعٍ موسمي أو محكومة بخصوصية وطنية (مكان حدوثها)، أو بخصوصية دينية أو فكرية أو سياسية أو إعلامية، ولوقتٍ محدد أو هدف مؤقت، بينما الحوار الحاصل في "مركز الحوار" هو حوار أسبوعي دوري وعربي شامل بدون أفضلية لأية خصوصيات وطنية أو دينية أو مهنية.

إنّ الحوار العربي/العربي، هو حوار بين أبناء أمّة واحدة وثقافة واحدة لكنهم ينتمون إلى دولٍ وكيانات متعددة.

لذلك فإنّ الحوار العربي الدوري هو حاجة مهمة لمسألتين متلازمتين معاً: تأكيد الهوية الثقافية العربية المشتركة، وتفعيل الدور الساعي لمستقبل عربي أفضل. 

أنّ بداية تجربة مركز الحوار العربي لم تكن فقط يوم افتتاح مقرّه في 18 ديسمبر 1994 .. بل كانت عملياً قبل ذلك بسنتين أي منذ عام 1992 في لقاءاتٍ جرت بشكلٍ دوري شهري دعت لها مجلة "الحوار"  بعد نشر افتتاحية بشكل نداء للمفكرين العرب، كان عنوانها:

"الأمّة التي لا يفكّر لها أبناؤها تنقاد لما يفكّر لها الغرباء".

 

إنّ وحدة الانتماء الحضاري ووحدة الانتماء الثقافي لا يجب أن تعنيا إطلاقاً وحدة الانتماء الفكري أو وحدة الرأي السياسي ..

ولا يجوز ولا يجب أن يكون اختلاف الفكر والتوجه السياسي سبباً للخلاف بين الأشخاص أو لصراعات عنفية بين الجماعات في المجتمع الواحد.

هناك آية قرآنية كريمة، ينطبق معناها على ندوات "مركز الحوار"، والتي تقول:

       " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. أولئك الذين هداهم الله".

 

أي ليس المهم من القائل لهذا القول، بل المهم هو القول نفسه.. وعلى الإنسان أن يستمعأولاً قبل أن يحكم سلباً أو إيجاباً.. ثم على الإنسان أن يستخدم عقله للتمييز بين الأقوال أو الأفكار لكي يتبعها فلا تُفرض عليه بل يختار أحسنها.. هؤلاء هم الذين هداهم الله .. والإنسان المهتدي هو الذي يعرف إلى أين يسير وما الذي يريد فعله. هذا هو باختصار معنى وجود "مركز الحوار العربي".. أي تجربة تتفاعل فيها الأفكار والآراء والأقوال.. ويستفيد منها من يشاء بقدر ما يشاء، وبغض النظر عن "القائل" في الندوة أو المقال.

إنّ الشعوب أو الجماعات التي تهمّش دور الفكر في حياتها تُهمّش عملياً دور العقل لتُحِلَّ مكانه الغرائز والانفعالات فتصبح الشعوب أدوات فتن، وتتحوّل الأوطان إلى بؤر صراعات تؤجّحها القوى التي تملك "أفكارا" لتنفيذها هنا وهناك.

ثمّ كيف يمكن للعرب أن يخرجوا ممّا هم فيه من انقسامات وأن يواجهوا ما أمامهم من تحدّيات إذا كانت هويّتهم الثقافية المشتركة موضع شكٍّ أصلاً، يصل إلى حدِّ الرفض لها أحياناً والاستعاضة عنها بهويّات ضيّقة تسمح للقوى الأجنبية بالتدخّل في شؤونها وباستباحة أوطانها؟!

وكيف يمكن مخاطبة الآخر غير العربي ومحاورته بالقضايا العربية العادلة إذا كان الإنسان العربي نفسه لا يملك المعرفة الصحيحة عن هذه القضايا ولا يجد لديه أي التزام تجاهها؟!

وهل يمكن بناء جالية عربية واحدة في أي مجتمع غربي إذا كان أفراد هذه الجالية رافضين لهويّتهم العربية؟!

إنّ حال العرب أينما وُجدوا (في داخل المنطقة العربية أو في أوروبا أو أميركا) هو حالٌ واحد: معاناة من غياب العلاقات السليمة بين أبناء الوطن الواحد، وأيضاً بين أبناء الأمّة الواحدة القائمة على عدّة أوطان ممّا أدّى أحياناً إلى الصراع بين أبناء هذه الأوطان.

إن تعميق الهوية الثقافية العربية ومضمونها الحضاري النابع من القيم الدينية، أساس لبناء أي دور عربي مستقبلي أفضل في أي مكان. كذلك بالنسبة للعرب في أميركا حيث لا يمكن تحقيق دور عربي فعّال في المجتمع الأميركي ما لم نحقق أنفسنا أولاً. وتحقيق الذات لا يمكن أن يتم في فراغ فكري وثقافي، ف"فاقد الشيء لا يعطيه"، ولا يمكن تحسين "صورة" العرب والمسلمين في أميركا ما لم يتحسن وضعنا أولاً: فكراً وأسلوباً. فتحسين "الأصل" هو المدخل لتحسين "الصورة".

 

  إن وجود "مركز الحوار" حقق ويحقق الأهداف التالية:

1.  المعرفة الأفضل لمعنى العروبة وللهوية الثقافية العربية، وللتلازم بين العروبة ومضمونها الحضاري الذي يشمل العرب جميعهم بمختلف طوائفهم وأصولهم الأثنية.

2.      الأسلوب الأفضل للحوار وبناء ضوابط للتحاور المثمر ولتبادل الآراء المختلفة.

3.     الدور الأفضل في إطار المجتمع الأميركي من خلال:

  أ-  بناء المعرفة الفكرية والسياسية والثقافية، حيث "أن فاقد الشيء لا يعطيه".

  ب -  التدرب على أسلوب التحاور الجاد والهادئ.

  ج-  الحوار الدوري الذي يحصل في المركز مع فعاليات أميركية، وتوظيف "مركز الحوار" وأنشطته الدورية لصالح أنشطة الجمعيات والمؤسسات العربية الأميركية عموماً.

***

إن "مركز الحوار" في واشنطن، هو تجربة متواضعة جداً بإمكاناتها، لكنها تعتز بدورها النوعي وبأسلوب الحوار فيها القائم على مخاطبة العقل والفكر، بدون أي قيد، إلاّ شرط الاحترام المتبادل للأشخاص والآراء معاً.

"مركز الحوار" هو الآن ندوات دورية أسبوعية في منطقة واشنطن (أكثر من 840 ندوة حتى الآن)، وهو أيضاً مطبوعات تصدر باللغتين العربية والإنجليزية وتصل إلى أفراد وجماعات مهمة داخل أميركا وخارجها. والمركز هو أيضاً موقع  ونشرات شبه يومية على الإنترنت فيها توثيق لتجربة "الحوار" ولبعض ندوات المركز، والكثير من المقالات والمواضيع التي تساهم في طرحٍ صحيح للقضايا العربية، وباللغتين العربية والإنجليزية.

 

ورغم أن "مركز الحوار العربي" ليس هو بجمعية حركية سياسية بل هو تأسس كمنتدى فكري وثقافي عربي في منطقة واشنطن، رغم ذلك، فإنه كان دائماً في مقدمة المؤسسات والجمعيات العربية الأميركية التي تعمل وتنشط دفاعاً عن قضايا عربية هامة داخل المجتمع الأميركي. ف"مركز الحوار العربي" هو في مقدمة من يعملون من أجل توعية الأميركيين عموماً بحقوق الشعب الفلسطيني وبعدالة المسألة الفلسطينية. كما خصّص المركز على موقعه على الأنترنت صفحة هامة جداً باللغة الأنكليزية عن حقوق الشعب الفلسطيني وعن مخاطر إستمرار الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل.

كذلك في الجانب الفكري والثقافي، حيث كان تاريخ 22 سنة من عمر مؤسسة "الحوار" هو سجل ناصع من العرض السليم للثقافة العربية ولمضامين الحضارة الإسلامية، وفي الرد على الحملات العنصرية داخل المجتمع الأميركي.

هي أولوية موازية لأولوية التعامل المعرفي مع "الآخر"، بأن يعمل العرب في أميركا والغرب على تعميق معرفتهم أولاً بأصولهم الحضارية والثقافية وبالفرز بين ما هو "أصيل" وما هو "دخيل" على الفكر الديني والثقافة العربية. فالمرحلة الآن – وربّما لفترةٍ طويلة - هي مرحلة إقناع المواطن الأميركي والغربي عموماً، بمن نكون "نحن" أكثر ممّا هي "ما الذي نريده".. وتجربة "الحوار" تساهم بذلك لأكثر من عقدين من الزمن رغم صعوبات الظروف وضعف الامكانات.

المصدر : بريد ادريس علوش-المغرب

Total time: 0.0914