أخبار الساعة » دراسات ومتابعات » دراسات وتقارير

الكشف عن هوية الفلسطيني في "ملوحة الحجر" د: سعيد العوادي

- ادريس علوش

 

الكشف عن هوية الفلسطيني في "ملوحة الحجر"

د: سعيد العوادي

منذ اطلاعي على قصيدة "ملوحة الحجر" للشاعر عبد السلام دخان، ضمن ديوانه المعنون بـ " فقدان المناعة" والصادر في نهاية 2011 عن مطبعة الخليج العربي بتطوان، وأنا لا أنفك أعيد قراءتها المرة تلو الأخرى، حتى استشعرت في نفسي، أنني وضعت اليد على ثقب القصيدة الذي بموجبه يستطيع القارئ أن ينظر منه إلى أعماق اللعبة الإبداعية، لاكتشاف شفرتها وتجاوز سطحية القشرة إلى ثراء اللباب، خصوصا إذا تعلق الأمر بشعرية حداثية جذرية تنتمي إلى أرومة قصيدة النثر.
1- مقاربة العنوان:

لقد إذا من الذائع المبتذل في معرفتنا النقدية أن العنوان أهم بوابة/ عتبة تدلف منها الذات القارئة إلى مهامه النصي ومفاوزه، إذ يكتنز دلالاته ويكشفها جانحا إلى استراتيجية أسلوبية تجمع بين التصريح والتلميح. ولا يكاد ينزاح عنوان قصيدة الشاعر عبد السلام دخان عن هذا المبدأ العام. ولذلك، فإننا سنتوقف في مقاربتنا لعنوان "ملوحة الحجر" عند ذينك البعدين المتضافرين وهما:

1-1- البعد التصريحي:

يتألف العنوان من تركيب إضافي يسعى فيه المضاف إليه المعرفة "الحجر" إلى إكساب المضاف "ملوحة" نوعا من التعريف الذي ينهض عليه البعد التصريحي، حيث يصرح العنوان بدلالة مباشرة مفادها الإخبار بأن الحجر مالح، مما يستدعي معه إثارة انتباه القارئ إلى الزاوية الذوقية التي يتناول منها الشاعر حجره.

-2- 1البعد التلميحي:

إذا كان البعد الأول له صلة بالجانب الدلالي، فإن البعد الثاني يرتبط ارتباطا وثيقا بالجانب التداولي. وفي هذا السياق تساعدنا بعض أسطر القصيدة في استبصار البعد التلميحي للعنوان، حيث يقول الشاعر على لسان المسنات الملفوفات بالسواد: أيها الفلسطيني الدفوق مثل البحر

فنفهم من خلال ذلك أن هذا الحجر ليس حجرا عاديا وإنما هو سلاح البطل الفلسطيني،ذلك السلاح الخام ابن الأرض التي هي مركز الصراع، فكأن قدر الفلسطيني أن يدافع عن الأرض بـ "الأرض". غير أن ملوحة هذا الحجر آتية من التدفق البحري للإنسان الفلسطيني، ذلك التدفق الذي أكسب الحجر ملوحة بَحْرية مُرَّة.

ومن المعلوم أن شرب ماء البحر لا يطفئ الظمأ بقدر ما يؤججه، وقياسا عليه فإن قوة هذا الحجر ليست في صلابته فحسب، ولكن في أن فعله في المقاومة والنضال سرمدي لا نهائي.

2- مقاربة القصيدة:

سنسعى في مقاربتنا لقصيدة الشاعر المبدع عبد السلام دخان إلى كشف ملامح هوية ذلك البطل الذي اتخذ سلاحا مالحا من الحجر ليضمن لنفسه المقاومة. وفي سبيل الوصول إلى هذه البغية فإننا سنركز على محورين مركزيين:

1-2- أنثى البطولة و تراجيديا الحزن:

يفتتح الشاعر قصيدته بقوله:

سأعد بعض الشاي

أو رائحته فقط

لامرأة تجيء من الحزن

وتعود إليه

فهو على غرار أسلافه من الشعراء العرب يربط فترات البطولة بحضور الأنثى المحفزة والمستفزة في الآن معا، فرغم اللحظات العصيبة ورغم عجلته من أمره فإنه لا ينسى الكرم، وإن قل زاده، بوصفه أحد مبادئ ثقافته العربية الجمعية الأصيلة.

وهو كرم تُقْصَد به امرأة لها طابعها الخاص حيث لا تعتمل في داخلها سوى مشاعر الحزن والكآبة التي تنطبع فاضحة إياها على صفحة وجهها، مفضية من خلال الجانب المظهري الإيتوسي إلى التذكير المتجدد للبطل بمأساته المتجدرة ومسؤوليته الجسيمة. وهي إذ تتدثر برداء الحزن والأسى إلا أنها لا تصل به إلى مستوى اليأس الذي يثبط همم الأبطال ويخفف من عزائمهم، وكيف يمكن لها ذلك وهي صانعة الرجال وقاهرة الاستسلام بل إنها كما يصورها الشاعر:

لم ينل اليأس منها

رغم آلام الفقدان

وبذلك، فإن كان عبد السلام دخان قد سلك مسلك أسلافه المبدعين في ربط ملامح البطولة للحضور الأنثوي إلا أنه لم يتبع قولهم، حيث استحضر أنثى صارمة وحازمة تحركها مشاعر المواطنة الحقيقية، عوض مشاعر الحب الفردية التي كان يصورها الشعراء في أنثى متدللة غَنِجَة متهالكة.

2-2- البطل الفلسطيني: بطاقة هوية.

رسم الشاعر دخان صورة متكاملة للبطل الفلسطيني أو بالأحرى للبطولة الفلسطينية فتكلم من خلال قناع البطل تارات متعددة وترك الأنثى تتكلم عنه في مواضع أخرى.

2-2-1- حديث الأنا عن الأنا:

سلك الشاعر تقنية حديث الأنا عن الأنا بهدف رسم بطاقة هوية تعبر من خلالها الذات عن همومها ومواجدها ونياتها التي لا يمكن لأي ذات غيرية أن تستجليها.

وبذلك، كان حضور دال "أنا" طاغيا في النص، إذ ورد فيه خمسة عشر مرة، مستهلا به الشاعر كل فقرات نصه. وتساعدنا البلاغة الكلاسية في الكشف عن جماليات هذا الحضور، حيث نجد عبد القاهر الجرجاني يربطه بأسلوب الذكر بغاية زيادة الإيضاح والتقرير، في حين يصله البلاغي المغربي أبو القاسم السجلماسي بتكرير البناء. ويقول عن بلاغته: "البناء بلاغة بديعة وسبيل من البيان عجيبة، تدل على قوة منة المتكلم في العبارة عن معانيه وتحفظه فيها بما يخل في القول بمبانيه".

وبالعودة إلى نص الشاعر نجد أن حديث الأنا عن الأنا تَقَصَّدَ الجهر بثلاثة عناصر مضمونية تساهم جميعا في كشف النقاب عن هوية البطل الفلسطيني وهي:

2-2-1-1- حامل للمسؤولية:

لا غرابة، أن يكون البطل مستضمرا في ذاته تحمل المسؤولية الذي يدفعه دفعا إلى ناتج البطولة. ولن تكون المسؤولية شيئا آخر سوى الرغبة في ولادة فجر جديد، يقول الشاعر:

وأنا الحامل

لأسرار المخاض

فأسرار المخاض هي أسرار الولادة، حيث الولادة على زمن جديد، بل ولادة جيل جديد من المناضلين خصوصا أن الشاعر يقول:

يخيل إلي أني الوحيد

الناجي من الحرب

ولما كان البطل يتخيل هذه الوحدة المريرة فإنه وجد نفسه مرغما بوضع الحطام فوق رموشه ومتابعة طريق التحدي والنضال بغض النظر عما يكتنفه من صعوبات وعراقيل، يقول:

أنا من حط الحطام

فوق رموشه

3-2-1-2- مفعم بالغضب والقوة:

سبق الإلماع إلى أن تحمل المسؤولية يقتضي توافر البطولة الحقيقية، وهذه الأخيرة تشكلها القوة والقدرة على التمرد ضد القهر والبغي، لذلك نجد البطل يتسلح بأسلحة خاصة اجتلبها من الروائية فرجينا وولف والقائد نابليون بونابارت والعالم نوبل، يقول:

أنا نسيان فرجينا وولف

قيود نابليون

ونوبل يكتب للسلام

وصية قاتل

إن هذه الأسلحة الخاصة من شأنها أن تضطلع بها ذات خاصة استثنائية تعرف نفسها ب:

أنا وتد من غير خيمة

واخضرار الدمم

من دون ندى

إن هذا البطل يملك أسرار وجوده في ذاته من غير تبعية كما الوتد التابع للخيمة والاخضرار التابع للندى، فهو إذن لا أصل له بل هو أصل ذاته. وإذا كان الأمر كذلك، فلا غرابة أن يجمع داخل ذاته قوى التناقض والتنافر حين يقول:

أنا المجهول المعلوم

والكلام الأخرس

يتمادى هذا البطل الفلسطيني مع البطل الحداثي المتمرد أو الخالق الشقي بتعبير أدونيس الذي ذكره في قصيدة تحمل عنوانا معبرا هي "فارس الكلمات الغريبة" حيث يقول:

إنه الواقع ونقيضه، الحياة وغيرها إنه الريح لا ترجع القهقرى، والماء لايعود إلى منبعه، يخلق نوعه بدءا

من نفسه لا أسلاف له وفي خطواته جذوره فبطل هذا المواصفات المفارقة خليق بأن يكون الجحيم

بعينه يقول:

أنا الجحيم

أبوابه مشرعة

2-2-1-3- محفز للكتابة والإبداع:

لعل أهم ما يميز صورة هذا البطل الثائر عن غيره من الصور الكثيرة لدى الشعراء المعاصرين الذين اتخذوه موضوعا شعريا هو هذا الجانب الذي يلح عليه المبدع عبد السلام دخان عندما يجعل البطل الفلسطيني محفزا للكتابة يحمل بين طياته شرارة الإبداع التي تكوي كل من رام الاقتراب منها، والواضح أن الشاعر يلتفت إلى هذا الجانب بنباهة وحذق، لأن القضية الفلسطينية استطاعت، فعلا، أن تلهم مجموعة من كتاب العرب في مختلف المجالات وأن تفتح شهيتهم للكتابة. يقول الشاعر:

أنا من صاغت يداه

إكليل الزمن

وصلى درويش

صلاته الأخيرة

في دمه

وألهم إدوارد سعيد

أنشودة الشرق

وأملى على الأم تريزا

وصية لرغيف خبز

أنا من علم الحجر اللغة

وبعث غفارا من موته

لا يكتفي إلهام البطل الفلسطيني لكل من درويش في مجال الشعر وإدوارد سعيد في نطاق الفكر والأم تريزا في إ طار التدين، فضلا عن بعث غيفارا ليعيد الثورة من جديد، بل إنه أكثر من ذلك فقد علم الحجر الكلام لينطق بالقوة ويسرد قصص الانتفاضة ومحكيات النضال.

2-2-2- حديث الأنثى عن الأنا:

تتضافر هذه التقنية مع سابقتها للمساهمة في بناء بطاقة هوية متكاملة للبطل، ويأتي حديث الأنثى عن الأنا للإعراب عن خصائص أخرى تميز الذات البطلة، والتي لا يستشعرها إلا الطرف الآخر الأنثوي وتتبدى من خلال القصيدة في:

2-2-2-1- الجمال والفتنة:

لا يرتبط الجمال هنا لدى الأنثى بمحاسن فيزيولوجية كما هو متعارف عليه، ولكنه يتصل رأسا بالبطولة، حيث الجمال معنوي بالأساس، فكلما طفحت البطولة إلا وازدادت هذه الأخيرة وهجا وحسنا، وكلما خبت البطولة تحول الجمال قبحا والحسن خبثا. وبذلك يقول الشاعر:

أنا من حط الحطام

فوق رموشه

وقالت له المشدات

ما أبهجك

فالبهجة، في هذا السياق تساوي البطولة تماما كالجمال الماثل في لون الزيتون عندما تقول الفاتنات:

يا لون الزيتون

ما أجملك

فليس المقصود أن اللون الأخضر هو لون الجمال، ولكن المقصود بعيد المرمى يتحقق في أن لون الجمال الحق منبعث من مدى ارتباط البطل بالأرض والزيتون

.2-2-2-2- العناد والإصرار:

تعشق الأنثى في البطل قدرته على العناد، والعناد ليس شيئا آخر غير الإصرار القوي من أجل نصرة القضية دون خنوع أو رجوع أو خضوع. فيكون إذن العناد احتفالا كما يقول الشاعر بطقوس الذهاب ليلا نحو الليل، بما يفيد الارتماء في المجاهل والمصاعب حتى التمكن من الوصول إلى الحق وكسب القضية والرهان.

وهذا الكلام هو ما يعبر عنه الشاعر بقوله:

أنا من قالت له المسنات

من علمك

كل هذا العناد

والاحتفال

بطقوس الذهاب

ليلا نحو الليل

-2-2-3- التدفق والمائية:

يختم عبد السلام دخان قصيدته الباذخة بقوله:

أنا من قالت له المسنات

الملفوفات بالسواد

أيها الفلسطيني الدفوق

مثل البحر

ما الطريق إليك

يا نافذة ظلت تنتظر...

تأتي الشهادة في هذه المرة أكثر حجية وإقناعية لأنها صادرة عن المسنات اللواتي اختبرن الحياة بحُلوها ومرها.. كما تفيد دلالة الالتفاف بالسواد الرغبة في الانعتاق من قيد هذا الالتفاف نحو غد أفضل، ولن يستطعن ذلك إلا بالاعتماد على هذا البطل الذي يشبه،في هذا السياق، البحر بجامع التدفق الدائم الذي لا يرضى بالتوقف أو التأني، وإنما يرضيه إحراز الانتصارات فقط.

أفضى النظر من ثقب "ملوحة الحجر" للشاعر عبد السلام دخان إلى ملاحقة الملامح الكبرى للبطولة الحقيقية التي يمثلها الفلسطيني الثائر، غير أن هذه الملامح لم تأتي في سياق فج تغلب عليه الخطابية الزاعقة، وإنما سيقت في إطار شعري باذخ يجعل من هذه القصيدة أنموذجا دالا للقصيدة الحداثية التي تعتمد على الميكانيزمات الجمالية لقصيدة النثر.

 

المصدر : بريد ادريس علوش-المغرب

Total time: 0.0709